العلاقات الاعتمادية: سلاسل غير مرئية من التعلق

اعتدنا أن نعتقد أن التعلق القوي بالشريك هو دليل على الحب والقرب. ولكن، ماذا لو كان وراء هذه الرعاية فقدان الذات؟

الاعتمادية هي حالة يضحي فيها الشخص بمصالحه الخاصة من أجل الآخر، فيفقد حدوده وحريته. وفقًا للجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA)، دخل هذا المفهوم إلى الاستخدام في ثمانينيات القرن الماضي لوصف العائلات التي تعاني من إدمان الكحول. واليوم أصبح مصطلحًا عالميًا يصف العديد من الروابط السامة.

أصل وتطور المفهوم

ظهرت أولى أوصاف الاعتمادية في الممارسات العلاجية المرتبطة بالإدمان على الكحول. كان الأقارب يركزون بشكل مفرط على مشكلة الشخص المدمن حتى توقفوا عن عيش حياتهم الخاصة. ومع مرور الوقت أصبح واضحًا أن هذه الديناميكية موجودة في جميع أنواع العلاقات – الرومانسية والعائلية والصداقات وحتى في العمل. تؤكد الأبحاث الحديثة PubMed أن الاعتمادية تؤثر على الصحة النفسية وتزيد من خطر القلق والاكتئاب.

مثال من الحياة: ليلى، التي نشأت في عائلة كانت والدتها فيها مريضة مزمنة، اعتادت منذ طفولتها أن تضع احتياجات الآخرين فوق احتياجاتها. وعندما كبرت دخلت في علاقات استغل فيها شركاؤها استعدادها للتضحية. أدركت ليلى المشكلة فقط أثناء العلاج عندما سألتها المعالجة: «وماذا تريدين أنتِ حقًا؟».

لماذا تنشأ الاعتمادية

عوامل الطفولة

  • برود عاطفي من الوالدين: يتعلم الطفل أن عليه كسب الاهتمام.
  • الحماية المفرطة: محو الحدود الشخصية منذ سن مبكرة.
  • تجارب عدم الاستقرار: قناعة بأن الحب دائمًا مصحوب بالألم.

المعتقدات الاجتماعية

  • خرافة أن «الصبر هو الفضيلة الأهم في الزواج».
  • الخوف والعار من الطلاق أو الانفصال.
  • ثقافة «المنقذ» حيث تُقدَّم قيمة التضحية بالنفس على الحدود الشخصية.
تعليق المؤلف: الاعتمادية ليست صفة شخصية ولا «ضعفًا»، بل نتيجة للتنشئة والسيناريوهات الاجتماعية. إنها تتكون عبر سنوات وتتطلب عملًا واعيًا لتجاوزها.

الأعراض والمظاهر

المؤشرات العاطفية

  • خوف دائم من فقدان العلاقة.
  • شعور بالذنب عند محاولة التعبير عن الاحتياجات الشخصية.
  • رغبة ملحّة في السيطرة على الطرف الآخر.

العواقب الجسدية والنفسية

  • إرهاق مزمن واضطرابات النوم.
  • صداع ومشاكل في الهضم.
  • تراجع تقدير الذات، قلق، حالات اكتئابية.
مثال من الحياة: سامر كان يعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات ويستنزف نفسه في المشاريع. في المنزل كان يحاول «إنقاذ» شريكته من أزماتها العاطفية، ناسياً نفسه تمامًا. في لحظة ما أدرك أنه لم يعد يميز بين مشاعرها ومشاعره الخاصة.

الاعتمادية في ثقافات مختلفة

يلعب السياق الثقافي دورًا في كيفية إدراك مثل هذه العلاقات:

  • في بلدان شرق آسيا يُنظر إلى التعلق القوي غالبًا على أنه أمر طبيعي وحتى كرمز للوفاء.
  • في أوروبا والولايات المتحدة يتركز الاهتمام أكثر على الحدود الفردية، وغالبًا ما يُعترف بالاعتمادية كمشكلة.
  • في بلدان رابطة الدول المستقلة لا يزال شائعًا الاعتقاد بأن التضحية بالنفس هي الدور الطبيعي للمرأة في الأسرة.

وفقًا لHarvard Health، فإن إدراك المشكلة هو الخطوة الأساسية نحو التغيير، إلا أنه في الثقافات ذات الترابط الأسري القوي يكون ذلك أكثر صعوبة.

تحديات العصر الحديث

في القرن الحادي والعشرين تأخذ الاعتمادية أشكالًا جديدة. إذ تخلق وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة وهم الحضور المستمر: يمكن للشركاء مراقبة بعضهم «أونلاين» والمطالبة بردود فورية. هذا يزيد القلق ويعزز الديناميكية الاعتمادية. يتحدث علماء النفس اليوم عن ظاهرة «الاعتمادية الرقمية».

مثال من الحياة: مريم اعترفت بأنها كانت تشعر بقلق شديد إذا لم يرد حبيبها على الرسائل خلال ساعة. شيئًا فشيئًا أصبحت حياتها تتمحور حول مراقبة حالته «أونلاين». فقدت عملها وأصدقاءها قبل أن تطلب المساعدة.

كيف نتحرر من العلاقات الاعتمادية

الخطوات الأولى

  • الاعتراف بالمشكلة وتسميتها بـ «الاعتمادية».
  • تعلم قول «لا» دون شعور بالذنب.
  • اللجوء إلى العلاج النفسي للعمل على وضع الحدود.
  • تطوير الاهتمامات والهوايات الشخصية.

المساعدة النفسية

وفقًا لـMayo Clinic، فإن أفضل النتائج تتحقق عند الجمع بين العلاج الفردي ومجموعات الدعم. تساعد ممارسات اليقظة الذهنية على ملاحظة المشاعر الشخصية، بينما تساهم تقنيات العلاج السلوكي المعرفي في تغيير المعتقدات السلبية.

تعليق المؤلف: العمل على الاعتمادية عملية طويلة. من المهم أن نتذكر أن الهدف ليس «التوقف عن الحب»، بل أن نتعلم كيف نحب دون تدمير أنفسنا.

عواقب تجاهل المشكلة

  • على الصحة: التوتر المزمن يزيد من مستوى الكورتيزول ويضعف جهاز المناعة.
  • على العمل: ضعف التركيز والطاقة ينعكس سلبًا على الأداء المهني.
  • على الحياة الشخصية: تتدهور العلاقات مع الأصدقاء والأقارب نتيجة الانغماس المستمر في مشاكل الشريك.

أسئلة شائعة

هل الاعتمادية دائمًا مرتبطة بالعلاقات العاطفية؟

لا. فهي قد تظهر أيضًا في الصداقات والعائلة والعمل، عندما يتولى شخص ما دور «المنقذ».

هل يمكن تغيير الشريك؟

التغيير ممكن فقط عند وجود رغبة متبادلة. لا يمكن «إصلاح» الآخر بالقوة.

هل من الطبيعي الاهتمام بالمقربين؟

نعم، لكن الرعاية تصبح مشكلة عندما تنسى نفسك تمامًا.

سؤال للتفكير

فكر: إذا وجدت نفسك غدًا بمفردك، بلا دور «المنقذ» أو «الداعم»، كيف ستقضي يومك؟ ما الذي سيفرحك شخصيًا؟

الخاتمة

العلاقات الاعتمادية فخ يسهل الوقوع فيه ويصعب الخروج منه. لكن الوعي والعلاج وتطوير حياة مستقلة يساعد على كسر هذه الدائرة. وفقًا لـWHO، فإن الصحة النفسية ترتبط مباشرة بجودة الروابط الاجتماعية: كلما كانت أكثر صحة وحرية، كان الشخص أكثر قدرة على مواجهة الضغوط والأزمات.


هذا المحتوى لأغراض معلوماتية فقط ولا يغني عن استشارة مختص. إذا وجدت نفسك في هذا الوصف، يرجى التوجه إلى أخصائي نفسي أو معالج نفسي.

شارك قصتك

أخبرنا عن تجربتك المتعلقة بهذا الموضوع.

مقالات موصى بها